كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فألقي السحرة} أي: فألقاهم ما رأوا من أمر الله تعالى بغاية السرعة، وبأيسر أمر {سجدًا} على وجوههم لله تعالى توبة مما صنعوا وإغبانًا لفرعون بسجودهم، وتعظيمًا لما رأوا، وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر، فلما رأوا فعل موسى عليه السلام خارجًا عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر البتة، ويقال: قال رئيسهم: كنا نغلب الناس بالسحر، وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحرًا، فأين الذي ألقيناه، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على الصانع القادر، وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولًا صادقًا من عند الله لا جرم تابوا وآمنوا، وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود؛ قال الأصبهاني: سبحان الله ما أعظم شأنهم ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين، فكأن قائلًا قال هذا فعلهم، فماذا قالوا؟ فقيل: {قالوا آمنا برب هارون وموسى} ولم يقولوا: آمنا برب العالمين؛ لأن فرعون ادّعى الربوبية في قوله: {أنا ربكم الأعلى} النازعات.
والإلهية في قوله: {ما علمت لكم من إله غيري} القصص، فلو أنهم قالوا ذلك لكان فرعون يقول: إنهم آمنوا بي لا بغيري، فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة، والدليل على ذلك أنهم لم يقتصروا على موسى بل قدّموا هارون لأن فرعون ربى موسى في صغره، فلو اقتصروا على موسى أو قدّموا ذكره فربما توهم أن المراد فرعون، وذكر هارون على الاستتباع وقيل: قدموه لكبر سنه، أو لرويّ الآية، فسبحان الله ما أعظم أمرهم كانوا أول النهار سحرة يقرون لفرعون بالربوبية، وآخره شهداء بررة روي أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا ثواب أهلها، وعن عكرمة لما خرّوا سجدًا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة، فكأنه قيل: ما قال لهم فرعون حينئذٍ؟ فقيل:
{قال} لهم: {آمنتم} أي: بالله {له} أي: مصدِّقين أو متبعين لموسى {قبل أن آذن لكم} في ذلك، قال ذلك إيهامًا بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن، ثم استأنف قوله معلمًا مخيلًا لاتباعه صدًا لهم عن الاقتداء بالسحرة {إنه} أي: موسى {لكبيركم} أي: معلمكم {الذي علمكم السحر} أي: فلم تتبعوه لظهور الحق بل لإرادتهم شيئًا من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن، وهذا على عادته في تخييل أتباعه بما يوقفهم عن اتباع الحق. ولما خيلهم شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة، فقال مقسمًا {فلأقطعن} أي: بسبب ما فعلتم {أيديكم} على سبيل التوزيع {وأرجلكم} أي: من كل رجل يدًا ورجلًا، وقوله: {من خلاف} حال يعني مختلفة، أي: الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى {ولأصلبنكم} وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم في المصلوب عليه تمكين المظروف في ظرفه، فقال: {في جذوع النخل} تشنيعًا لقتلكم وردعًا لأمثالكم {ولتعلمن أينا} يريد نفسه لعنه الله وموسى عليه السلام بدليل قوله: آمنتم له، واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله؛ كقوله: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، وفيه تبجح باقتداره وقهره، وما ألفه وضري به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع لموسى عليه السلام، واستضعاف له مع الهزء به؛ لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
وقيل: يريد رب موسى الذي آمنوا به {أشد عذابًا وأبقى} أي: أدوم على مخالفته فإن قيل: إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية، وقصدها له وآل الأمر أن استغاث بموسى من شرها، وعجزه عن دفعها كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد، ويستهزىء بموسي في قوله: أينا أشد عذابًا وأبقى؟
أجيب: بأنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه يظهر الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجًا لأمره، قال الرازي: ومن استقرىء أحوال العالم علم أن الفاجر قد يفعل أمثال هذه الأشياء، ومما يدل على معاندته قوله: إنه لكبيركم الذي علمكم السحر لأنه كان يعلم أن موسى ما خالطهم البتة، وما لقيهم، وكان يعلم من سحرته أستاذ كل واحد من هو، وكيف حصل ذلك العلم، ثم إنه كان يقول مع ذلك هذه الأشياء، ثم كأنه قيل فما قالوا له؟ فقيل:
{قالوا} له: {لن نؤثرك} أي: نختارك {على ما جاءنا} على لسان موسى {من البينات} التي عايناها، وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضادتها. ولما بدؤوا بما يدل على الخالق من الفعل ترقوا إلى ذكره بعد معرفته بفعله إشارة إلى علوِّ قدره، فقالوا: {والذي} أي: ولا نؤثرك بالإتباع على الذي فطرنا أي: ابتدأ خلقنا إشارة إلى شمول ربوبية الله تعالى لهم وله ولجميع الناس، وتنبيهًا على عجز فرعون عند من استخفه، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم.
تنبيه:
قد علم مما تقرر أن والذي معطوف على ما وإنما أخروا ذكر الباري تعالى؛ لأنه من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وقيل: الواو قسم والموصول مقسم به وجواب القسم محذوف، أي: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق، ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به، وعلموا أن ما يفعله بهم هو بإذن الله تعالى قالوا له: {فاقض} أي: فاصنع في حكمك الذي تمضيه {ما أنت قاض} أي: فاقض الذي أنت قاضيه، ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنما تقضي} أي: تصنع بنا ما تريد إن قدّرك الله عليه {هذه الحياة الدنيا} النصب على الاتساع أي: إنما حكمك فيها على الجسد خاصة، فهي ساعة تعقبها راحة، ونحن لا نخاف إلا ممن يحكم على الروح، وإن فني الجسد فذاك هو العذاب الشديد الدائم، ثم عللوا تعظيم الله تعالى، واستهانتهم بفرعون بقولهم:
{إنا آمنا بربنا} أي: المحسن إلينا طول أعمارنا مع إساءتنا بالكفر وغيره {ليغفر لنا} من غير نفع يلحقه بالفعل، أو ضرر يدركه بالترك {خطايانا} التي قابلنا بها إحسانه، ثم خصوا بعد العموم فقالوا: {وما أكرهتنا عليه} وبينوا ذلك بقولهم: {من السحر} لنعارض المعجزة، فإنه كان الأكمل لنا عصيانك فيه؛ لأن الله تعالى أحق بأن يتقى.
فإن قيل: كيف قالوا ذلك وقد جاؤوا مختارين يحلفون بعزة فرعون آن لهم الغلبة؟
أجيب: بأنه قد روي أن رؤوساء السحرة كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلم السحر، وروي أنهم رأوا موسى عليه السلام نائمًا، وعصاه تحرسه، فقالوا لفرعون: إن الساحر إذا نام بطل سحره، فهذا لا نقدر على معارضته، فأبى عليهم، وأكرههم على المعارضة.
وقيل: إنَّ الملوك في ذلك الزمان كانوا يأخذون البعض من رعيتهم، ويكلفونه تعلم السحر، فإذا شاخ بعثوا إليه أحداثًا ليعلمهم ليكون في كل وقت من يحسنه. ولما كان التقدير فربنا أهل التقوى وأهل المغفرة عطفوا عليه مستحضرين لكماله {والله} أي: الجامع لصفات الكمال {خير} جزاء منك فيما وعدتنا به {وأبقى} ثوابًا وعقابًا قال أبو حيان: والظاهر أن الله تعالى سلمهم من فرعون، ويؤيده قوله تعالى: {ومن اتبعكما الغالبون} القصص، وقال الرازي: ليس في القرآن أنَّ فرعون فعل بأولئك القوم المؤمنين ما أوعدهم، ولم يثبت في الأخبار،
وقال البقاعي: سيأتي في آخر الحديد ما هو صريح في نجاتهم، ثم عللوا هذا الحكم بقولهم:
{إنه} أي: الأمر والشأن {من يأت ربه} أي: الذي رباه وأحسن إليه بأن أوجده وجعل له جميع ما يصلحه {مجرمًا} بأن يموت على كفره {فإن له جهنم} دار الإهانة {لا يموت فيها} فيستريح من عذابها بخلاف عذابك، فإن آخره الموت وإن طال {ولا يحيى} فيها حياة مهنأة، وبها يندفع ما قيل: إن الجسم الحيِّ لابد أن يبقى إمَّا حيًا أو ميِّتًا، فخلوه عن الوصفين محال، وقال بعضهم: إن لنا حالة ثالثة، وهي كحالة المذبوح قبل أن يهدأ، فلا هو حي لأنه قد ذبح ذبحًا لا تبقى الحياة معه، ولا هو ميت؛ لأن الروح لم تفارقه بعد، فهي حالة ثالثة.
{ومن يأته} أي: ربه الذي قد أوجده ورباه {مؤمنًا} أي: مصدقًا به {قد} ضم إلى تصديق الإيمان أنه {عمل} أي: في الدنيا الصالحات أي: التي أمر بها، فكان صادق الإيمان مستلزمًا لصالح الأعمال {فأولئك} أي: العالوا الرتبة {لهم الدرجات العلى} جمع علياء مؤنث أعلى التي لا نسبة لدرجاتك التي أوعدتناها إليها، ثم بينوها بقولهم:
{جنات عدن} أي: أعدت للإقامة وهيئت فيها أسبابها {تجري من تحتها الأنهار} أي: من تحت غرفها وأسرتها وأرضها، فلا يراد موضع منها؛ لأن يجري فيه نهر الأجرى، وقولهم: {خالدين فيها} حال والعامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار {وذلك جزاء} كل {من تزكى} أي: تطهر من أدناس الكفر.
تنبيه:
هذه الآيات الثلاث وهي من قوله أنه من يأت ربه مجرمًا إلى هنا يحتمل أن تكون من كلام السحرة كما تقرر، وأن تكون ابتداء كلام من الله تعالى، وقوله تعالى:
عطف على قوله: {ولقد أريناه آياتنا} طه.
وفيه دليل على أن موسى عليه السلام كثر مستجيبوه، فأراد الله تعالى تمييزهم من طبقة فرعون وخلاصهم، فأوحى إليه أن يسري بهم ليلًا، والسري اسم لسير الليل، والإسراء مثله، والحكمة في السري بهم لئلا يشاهدهم العدو فيمنعهم عن مرادهم، أو ليكون ذلك عائقًا لفرعون عن طلبه وتتبعه، أو ليكون إذا تقارب العسكر أن لا يرى عسكر موسى عليه الصلاة والسلام عسكر فرعون لعنه الله فلا يهابونهم.
وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون وهمزة وصل بعدها من سرى، والباقون بسكون النون، وهمزة قطع بعدها من أسرى لغتان أي أسر ببني إسرائيل من أرض مصر التي لينت قلب فرعون لهم حتى أذن لهم في مسيرهم بعد أن كان قد أبى أن يطلقهم، أو يكف عنهم العذاب فأقصد بهم ناحية بحر القلزم {فاضرب} أي: اجعل {لهم} بالضرب بعصاك {طريقًا في البحر} والمراد بالطريق الجنس، فإنه كان لكل سبط طريق، وقوله: {يبسًا} صفة لطريق وصف به لما يؤول إليه؛ لأنه لم يكن يبسًا إلا بعد أن مرت عليه الصبا، فجففته كما روي، وقيل في الأصل مصدر وصف به مبالغة، وقيل: جمع يابس كخادم وخدم وصف به الواحد مبالغة، فلما امتثل ما أمر به، وأيبس الله تعالى له الأرض، وأراد المرور بها قال الله تعالى له: {لا تخاف دركًا} أي: أن يدركك فرعون {ولا تخشى} غرقًا وقرأ حمزة بجزم الفاء ولا ألف بينها وبين الخاء على أن يكون نهيًا مستأنفًا، والباقون برفع الفاء، وألف بينهما وبين الخاء على أنه مستأنف، فلا محل له من الإعراب، أو أنه في محل نصب على الحال من فاعل اضرب، أي: اضرب غير خائف.
{فأتبعهم فرعون بجنوده} أي: وهو معهم على كثرتهم وعلوّهم، وعزتهم، فكانوا كالتابع الذي لا معنى له بدون متبوعه، والمتبوع بنو إسرائيل، وذلك أن موسى خرج بهم أول الليل، فأخبر فرعون بذلك، فقص أثرهم، والمعنى: فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده، فحذف المفعول الثاني، وقيل: إن الباء زائدة {فغشيهم} أي: فرعون وقومه {من اليم} أي: البحر {ما غشيهم} أي: أمر لا تحتمل العقول وصفه، فأهلكهم، وقطع دابرهم، ولم يبق منهم أحدًا وما شاك أحدًا من عبادنا المستضعفين شوكة.
{وأضل فرعون قومه} أي: بدعائهم إلى عبادته {وما هدى} أي: ما أرشدهم، وهذا تكذيب لفرعون وتهكم به في قوله: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} غافر.
تنبيه:
لا بأس بذكر شيء من هذه القصة، فنقول: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر، وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلي والدوابّ لعيد يخرجون إليه، فخرج بهم ليلًا، وكان يوسف عليه الصلاة والسلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر، فلم يعرفوا مكانها حتى دلتهم عجوز على موضع العظم، فأخذوه، وقال موسى عليه السلام للعجوز: احتكمي، أي: انظري لك شيئًا اطلبيه، فقالت: أكون معك في الجنة، فلما خرجوا تبعهم فرعون وعلى مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب، فلما انتهى موسى إلى البحر قال: هنا أمرت، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه، فانفلق، فقال لهم موسى: ادخلوا فيه، فقالوا: كيف وهي رطبة؟ فدعا ربه فهبت عليها الصبا، فجفت، فقالوا: نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينهم كوى يرى بعضم بعضًا، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر، وأقبل فرعون إلى تلك الطرق، فقال له قومه: إن موسى قد سحر البحر كما ترى، وكان على فرس حصان، فأقبل جبريل عليه السلام على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة، فسار جبريل بين يدي فرعون، فأبصر الحصان الفرس، فاقتحم بفرعون على أثرها، فصاحت الملائكة في الناس: الحقوا حتى إذا لحق آخرهم، وكاد أوّلهم أن يخرج التقى البحر عليهم، فغرقوا، فرجع بنو إسرائيل حتى ينظروا إليهم، وقالوا: يا موسى ادع الله يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فلفظهم البحر إلى الساحل، وأصابوا من سلاحهم، وذكر ابن عباس أن جبريل قال: يا محمد لو رأيتني وأنا أدس في في فرعون الماء والطين مخافة أن يتوب، فهذا معنى قوله تعالى: فغشيهم من اليم ما غشيهم، ولما أنعم الله تعالى على قوم موسى عليه السلام بأنواع النعم ذكر أولادهم تلك النعم، فناداهم بقوله تعالى: {يا بني إسرائيل} والمنادى من وجد من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخوطبوا بما أنعم به على أجدادهم زمن موسى عليه السلام، ولا شك أن إزالة الضرر يجب تقديمها على إيصال المنفعة، وإيصال المنفعة الدينية أعظم من إيصال المنفعة الدنيوية، فلهذا بدأ تعالى بإزالة الضرر بقوله: {قد أنجيناكم من عدوكم}، فإنّ فرعون كان ينزل بهم من أنواع الظلم كثيرًا من القتل والإذلال والخراج والأعمال الشاقة، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله تعالى: {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} أي: الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم عليه السلام، وهو جانبه الذي يلي البحر، وناحية مكة واليمن، ووجه المنفعة فيه أنه أنزل في ذلك القرب عليهم كتابًا فيه بيان دينهم، وشرح شريعتهم.
ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله: {ونزلنا عليكم} بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم {المنِّ} أي: الترنجبين {والسلوى} أي: الطير السماني بتخفيف الميم والقصر، وقوله تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} أمر إباحة أن فسر الطيب باللذيذ؛ لأن المن والسلوى من لذائذ الأطعمة، وإن فسر بالحلال؛ لأن الله تعالى أنزله إليهم، ولم تمسه يد الآدميين، فهو أمر إيجاب، وقرأ حمزة والكسائي قد أنجيناكم ووعدناكم ما رزقناكم بتاء مضمومة بعد التحتية من أنجينا، وبعد الدال من وعدنا، وبعد القاف من رزقنا، ولا ألف في الثلاثة، والباقون بالنون، وألف بعدها في الثلاثة، وأسقط أبو عمرو الألف قبل العين من وعدنا، وأثبتها الباقون، ثم زجرهم عن العصيان بقوله تعالى: {ولا تطغوا فيه} أي: فيما رزقناكم بالإخلال بشكره، والتعدي بما حد الله لكم فيه من السرف والبطر والمنع عن المستحقين، وقرأ الكسائي {فيحل} بضم الحاء، أي: ينزل، والباقون بكسرها، أي: يجب {عليكم غضبي} أي: عقوبتي {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} أي: هلك، وقيل: شقي، وقيل: وقع في الهاوية، وقرأ الكسائي بضم اللام الأولى، وكسرها الباقون، ولما كان الإنسان محل الزلل، وإن اجتهد رجاه واستعطفه بقوله سبحانه: {وإني لغفار} أي: ستار بإسبال ذيل العفو {لمن تاب} أي: رجع عن ذنوبه من الشرك، وما يقاربه {وآمن} بكل ما يجب الإيمان به {وعمل صالحًا} تصديقًا لإيمانه {ثم اهتدى} باستمراره على ذلك إلى موته.
فائدة: اعلم أنه تعالى وصف نفسه بكونه غافرًا وغفورًا وغفارًا، وبأن له غفرانًا ومغفرة، وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر، أمَّا وصف كونه غافرًا، فقوله تعالى: {غافر الذنب} غافر.
وأما كونه غفورًا، فقوله تعالى: {وربك الغفور} الكهف، وأما كونه غفارًا، فقوله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن}، وأما الغفران، فقوله تعالى: {غفرانك ربنا} البقرة، وأما المغفرة، فقوله تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس} الرعد وأما صيغة الماضي فقوله تعالى في حق داوود عليه السلام: {فغفرنا له} (ص) وأما صيغة المستقبل فقوله تعالى: {يغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء، وقوله تعالى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} الفتح، وأما لفظ الاستغفار، فقوله تعالى: {استغفروا ربكم} هود، {ويستغفرون لمن في الأرض} الشورى.
{ويستغفرون للذين آمنوا} غافر.
وههنا نكتة لطيفة وهي أن العبد له أسماء ثلاثة؛ الظالم والظلوم والظلام إذا كثر منه الظلم، ولله تعالى في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسم، فكأنه تعالى قال: إن كنت ظالمًا فأنا غافر، وإن كنت ظلومًا فأنا غفور، وإن كنت ظلامًا فأنا غفار، فيجب على كل من ارتكب معصية كبيرة أو صغيرة أن يتوب منها لهذه الآية، ودلت على أن العمل الصالح غير داخل في الإيمان؛ لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان والمعطوف غاير المعطوف عليه. اهـ.